فصل: فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة النور:
النور من أسماء الله الحسنى، وسميت سورة النور بهذا الاسم لأنها تضمنت الآية الكريمة: {الله نور السماوات والأرض} والنور- مادية ومعنوية- صادر عن الله تعالى، بل كل شيء يستند في وجوده إلى البارئ الأعلى، فمالا وجود له من ذاته فحقيقته صفر. إن الكون كالظل لا وجود له إلا من الجسم الذي يلقيه، فإذا ذهب الجسم تقلص الظل أو زال.. والعالم أجمع يوجد ويبقى بإيجاد الله له وتدبيره لأمره، ونور النهار عند مطلع الشمس، أو نور الليل عند بزوغ القمر مصدره من الله. فإذا ذهب النوران فكل ذرة تتحرك دليل على خالقها، لأنها به تقوم، وعليه تدل. وفى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم آذاه المشركون في الطائف: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بى غضبك، أو ينزل بى سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله». ومن دعائه- عليه الصلاة والسلام- وهو يقوم الليل: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن». وعن ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور العرش من نور وجهه. وسنشرح إن شاء الله قوله تبارك اسمه {مثل نوره} بعد قليل، أما الآن فننظر في أول السورة: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} في هذا النظم تنويه بالسورة وما احتوت من توجيهات، لأنه ما بدئت سورة في القرآن بهذا الابتداء، وقد تكرر لفت النظر إلى ما أتت به السورة من أحكام مرتين: الأولى في قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين}. والأخرى قوله: {لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
ذلك أن السورة تحدثت عن العلاقة الخاصة بين الرجال والنساء، وذكرت عقوبات بعض الجرائم الجنسية، وشرحت آداب نظر كل جنس إلى الآخر، وحددت الزينات المباحة والمحظورة، كما أوجبت الاستئذان قبل دخول البيوت، وداخل كل بيت! وبينت البيوت التي يجوز الأكل فيها ومع من؟. وهذه تنظيمات لبناء المجتمع الإسلامى على العفة والطهر، وإقامة سياج متين حول المحارم التي يخاف وقوعها.. وقد كان لهذه التعليمات أثر في صون الأمة من الآثام وتحصينها من الرذائل، ومن المشاهد أن الحضارة المعاصرة تجرأت على المناكر، ومهدت لها الطرق، ولم تزل تواقعها حتى استباحتها، والزنا الآن لا يسمى زنا، بل يسمى في أغلب الأحيان حبا أو صداقة. وقد دحرجت الآذيان عن مكانتها في التربية، وفسح الطريق أمام مذاهب لا إيمان لها ولا شرف، والجهود الاستعمارية مبذولة كى ينتهى الإسلام إلى هذا المصير!!. وقد بدأت سورة النور بتقرير عقوبة الزنا، وتحريم الزواج من البغايا، كما غلظت جريمة قذف المحصنات، وشرحت شريعة الملاعنة، مبينة أن ذلك كله من فضل الله وحكمته وتوبته على عباده.
وناسب في هذا المقام ذكر حديث الإفك، وهو حديث كشف عما في صدور أعداء الإسلام من ضغن، ولا عجب فقد نبه القرآن إلى ذلك من قبل {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا}. والحق أنى أحتقر الرجل الذي يتوارى عن الأنظار ثم يطلق مقالة السوء عن سيدة شريفة، ويترك للمستغفلين والأغرار أن يشيعوها. ذاك ما فعله كبير المنافقين عبد الله بن أبى عندما افترى الكذب على عائشة أم المؤمنين، وطعنها في أغلى ما تملك وتركها تقول: ظننت أن الحزن فالق كبدى!!. أما الرسول- عليه الصلاة والسلام- فقد أخذته الدهشة وتحير في هذه المصيبة الداهمة، لولا أن الله أنزل براءة زوجته في وحى يتلى إلى آخر الدهر!!. وقد تضمنت القصة دروسا ينبغى ألا تنسى {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا}! {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة}.
وهكذا أطفأ الله الفتنة بعد ما تركت في النفوس جراحا... ثم عاد القرآن الكريم يذكر الآداب الخاصة بدخول البيوت، إن لسكانها حرمة مرعية، لابد من استئناس وتسليم وإذن، واتسعت دائرة هذا الاستئذان لتشمل الذين يطرقون البيوت من الخارج، والذين يتنقلون بين الحجرات في الداخل، ولا أعرف أن هذه الآداب شرعت في حضارة سابقة، أما الحضارة الحديثة فلا تبالى أن تنظر من ثقب الباب لتعرف ما هنالك!. ومضيا مع إشاعة العفاف وتأديب الغرائز أكد الإسلام ضرورة غض البصر وحفظ الفروج. والواقع أن هذا تشريع تقرر في الأديان السابقة ولكن الإسلام فضله وأضله، وتحدث عن الزينات الظاهرة المعفو عنها كا لكحل في العين والحمرة في الخد، والخاتم في اليد، وعن الزينات الباطنة التي لابد من إخفائها.. والغرب الذي يدعى المسيحية يصدر للعالمين تقاليد العرى والتبرج وانتهاك الحرمات، وما أظن تاريخ الدنيا شهد مثل هذا الدنس الذي ينشره هؤلاء الناس، لقد سميتها في بعض كتبى حضارة البغى والبغاء!!. ووسائل الإعلام المختلفة تتسابق إلى بث الفتنة داخل البيوت، وتعرض صورا للرقص الغربى المزدوج والرقص الشرقى المفرد، يفرح بها الشيطان، وتزلزل الطهر المنشود. إن الإسلام اعتبر الزواج عبادة، وألزم الطبيعة البشرية أن تكتفى بالحلال، وأن تبتعد عن الحرام.. ولعل من لطائف القرآن الكريم أن تجى به آية طويلة عن الأكل في البيوت، وعن الأهلين والأصدقاء الذي يصح الأكل معهم جميعا أو أشتاتا، إن إحصاء هذه الآداب الخاصة استغرق ثلثى السورة، ولكن سورة النور سميت- كما قلنا- بالآية التي توسطتها تتحدث عن البهاء الإلهى، والمجد الذي لايبلى، ولذلك نعود إلى هذه الآية لنشرح المثل المقترن بها. في آية النور ضرب الله المثل لنوره فقال: {مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} المشكاة: تجويف مصنوع في الجدار يوضع المصباح فيه عادة! ويسمى في الريف الطاق!. والزجاجة حول المصباح لتصفية نوره ومنع دخانه! والمثل المضروب هنا لمصباح يستمد اشتعاله من زيت خاص، هو أعلى أنواع زيت الزيتون يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار، والزجاجة من الشفافية والتألق كأنها كوكب درى.
وهنا نسأل: مثل نوره في أرجاء الكون؟ أو مثل نوره في قلب المؤمن؟ بالأول قال الغزالى، وعبارته: النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أى: الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه. وهو النور الحقيقى وليس فوقه نور. وجعل اسمه تعالى النور جاء دالا على التنره عن العدم، وعلى إخراج الأشياء كلها من ظلمة العدم إلى ظهور الوجود والواقع أن دلائل الوجود الأعلى من الكثرة والوفرة بحيث لا يزيغ عنها إلا أعمى كأن كل ذرة عليها مقادير من الضوء تجعل انكشافها نهارا!!. أما المعنى الثانى فهو مثل نوره في قلب المؤمن، وأساسه أن القلب العارف يرزق بصيرة تميز الصواب من الخطأ، والبر من الإثم، ويمشى بين الناس ثابت الخطو فسدد الهدف. ولعله يستمد من القرآن وضوح غايته، والقرآن نور: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا}.
وعند التأمل نجد المعنيين متلازمين، فالذى يلمح في الآفاق نور ربه تستقر هداياته في قلبه! ويرتبط بالمساجد يتردد عليها من الفجر إلى العشاء، فقلبه معلق ببيوت الله يسبح فيها بالغدو والآصال.. أما الكافرون فأشباه دواب لا يعرفون عن ربهم شيئا، وربما كانوا أذكياء في فهم الدنيا، ولكنهم محجوبون عن رب الدنيا والآخرة، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}. وقد تحدثت الآيات عقيب ذلك عن قدرة الله وعظمته، واستحثت أولى الألباب على النظر في الكون، ففى هذا النظر ما ينمى الإيمان ويضاعف نوره. تدبر قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير} ألا يغريك هذا السياق أن تكون بعض الكون المسبح بحمد ربه، المعترف بآلائه ومجده؟. وقد تتساءل: ما علاقة آداب الأسرة وسلامة المجتمع التي سبقت وأعقبت آية النور بهذا الحديث عن إبداع الله وجلاله؟. والجواب أن كل تشريع يرتبط بالعقيدة، ويحيا بحياتها، وهيهات أن يبتعد عنها، خذ مثلا قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ألا ترى أربعة من الأسماء الحسنى انتظمت في سياق واحد مع تقرير حكم من أحكام الأسرة؟.
هكذا القرآن الكريم يربط الإيمان بالعمل ويقرن الحديث عن شئون الناس بالإيمان الواجب برب الناس.
إن رباط الشريعة بالعقيدة وثيق، وارتباط العمل بالإيمان قائم، وفى عصرنا يوجد مارقون يريدون أن يجعلوا للشرائع مصدرا غير الإسلام، وللحكم أسسا غير الوحى!. وهم ينظرون إلى سورة النور خاصة بضيق شديد، لأنها حرمت الزنا والتبرج والانحلال، ولذلك شرحت السورة موقف هؤلاء، وبراءة الدين منهم: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} وقد تتعبت مسالك هؤلاء الرافضين لحكم الله ورسوله فوجدت جمهرتهم لا تحترم لله فريضة، ولا تعرف طريقها إلى مسجد! وهم يتظاهرون، ويشد بعضهم أزر بعض، حتى لا يقوم للإسلام حكم، وغرضهم القريب والبعيد ألا يقوم للإسلام كيان عبادى أو خلقى، وأن تعم العالمين جاهلية حديثة.
ولذلك يقول الله بعدئذ. {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}. والحرب من قديم ناشبة بين فريقين: فريق ضائق بالدين كله، يحتال لإسقاط رايته وإحباط غايته، وفريق يربط الناس بربهم، ويشد أرجاء المجتمع بشغب الإسلام كلها.. وحالة المسلمين في هذا العصر رديئة، والهزائم المادية والمعنوية. تحيط بهم، ولكن الله فتح أمامهم أبواب الآمال عندما قال لهم هنا: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم}. على أن هذا التمكين يحتاج إلى مقدمات طويلة، وجهود موصولة، فإن للقيادة والسيادة مؤهلات لابد من تحصيلها ويستحيل أن يتحقق لعاطل أمل. ولننظر ما فعل الرسول وصحبه عندما أرادوا إقامة دولة للإيمان، لقد مكثوا قرابة ربع قرن يصارعون الوثنية العربية حتى هزموها، ثم جمعوا بالتوحيد فلول العرب، ومالوا على الرومان والفرس ميلة واحدة، فما هي إلا جولات يسيرة حتى أصبح المسلمون الدولة الأولى في العالم!!.
خلال ثلاثين سنة من نزول {اقرأ} تحول رجل واحد إلى أمة رائعة تأخذ لربها ولنفسها ما تريد!!. كان يستحيل- في الخيال- أن تتحول أسرة فقيرة في مكة إلى دولة تبسط سلطانها على العالمين!! ما هي الوسائل؟ {يعبدونني لا يشركون بي شيئا} {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}!. أهذه وسائل تنهض بها أمة؟ ويسقط بها جبروت حكم العالم كله عشرة قرون؟ {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض}. وبديهى أن هذه الوسائل لا يفهمها العجزة والبلة، إنما يفهمها ويحشدها رجال فقهوا سياسة الدنيا والآخرة، وخرجوا من سلطان الأوهام والدنايا، وارتفعوا إلى سيرة محمد وصحابته. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة النور:
أقول: وجه اتصالها بسورة قد أفلح: أنه لما قال: {والذينَ هُم لفروجهم حافظون}.
ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه، من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر، وأمر فيها بالنكاح حفظًا للفروج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط، ولا تناسق أبدع من هذا النسق. اهـ.